شهدت القارة الأوروبية أكثر من حرب شرسة ومدمرة، ولكن أكثرها دموية و دمارا كانت الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، والتي لم تقف آثارها داخل حدود أوروبا ، ولكنها طالت العديد من الدول خارج وداخل القارة الأوروبية ، فنتج عن تلك الحرب المدمرة خسائر في الأرواح تقدر بالملايين هذا إلى جانب الجرحى و المشردين، ونتج عنها أيضا العديد من الخسائر المادية ، فتلك الحرب أثرت بشكل كبير سلبا على العديد من الدول وأدت لدمار مجالاتها الزراعية والصناعية بالإضافة للتكلفة الباهظة للحرب واستنزافها لموارد تلك الدول، فضلا عن تدمير بنيتها التحتية، وانهيار مجالاتها الزراعية والصناعية الأمر الذي أدى بدوره لانهيار الاقتصاد وضعف قيمة العملة إن لم يكن فقدانها أغلب قوتها، ومن تلك الدول كانت ألمانيا التي حظيت بنصيب كبير من الدمار والانهيار، لتستطيع ألمانيا بعد ذلك بتحقيق معجزة اقتصادية لتتحول من الدمار وركام الحرب إلى أحد دول القمة في العالم اقتصاديا، فضلا عن تأثيرها السياسي ،فألمانيا تعتبر أحد أعمدة الاتحاد الأوروبي ،وصاحبة اقتصاد قوى سواء كان أوروبيا أم عالميا، فكيف استطاعت ألمانيا التحول من أطلال دولة السائد فيها الدمار والانهيار الاقتصادي إلى دولة من دول القمة في العالم في جميع المجالات ؟ .
التحديات التي واجهت ألمانيا بعد الحرب :
بعد سكوت دوى المدافع وانتهاء الحرب العالمية الثانية رسميا في سبتمبر من العام 1945م، والتي انتهت بهزيمة ألمانيا ودول المحور (اليابان – إيطاليا ) ، كانت تلك النهاية تحمل الكثير من الدمار على أوروبا وخاصة ألمانيا التي عانت من تدمير أكبر وأهم مدنها، وتدمير البنية التحتية بها ذلك إلى جانب العديد من التحديات التي واجهت ألمانيا في فترة ما بعد انتهاء الحرب والتي كانت كفيلة بقتل أي طموح للنهوض مرة أخرى مثل :
1- تقسيم ألمانيا بعد الحرب :
بعد نجاح العمليات العسكرية لدول الحلفاء ضد دول المحور مثل إنزال النورماندي شمال فرنسا و استكمال المعارك حتى تم تحرير فرنسا من قبضة الألمان الذين هزموا في العديد من المعارك على عدة جبهات منها معركة العلمين في شمال إفريقيا و معارك تحرير فرنسا بالإضافة للمعارك في الجبهة السوفيتية التي كبدت الألمان خسائر عديدة سواء من حيث تكلفة تلك المعارك المادية أو البشرية، تلك المعارك التي مثلت مسامير في نعش ألمانيا، وعليه لاح النصر في الأفق للحلفاء، وبدأت بشائر حسم الحرب لصالحهم في الوضوح، مما دفع الحلفاء للتشاور حول مستقبل ومصير العديد من الدول مثل اليابان وألمانيا، فالحلفاء اختلفوا كثيرا حول مصير ألمانيا فعقدوا العديد من المؤتمرات لمناقشة وتقرير مصيرها أولهم (مؤتمر يالطا) الذي عقد في فبراير 1945م لمناقشة العديد من التصورات حول مصير دول المحور بعد نهاية الحرب وحسمها لصالحهم، ذلك المؤتمر الذي استقروا فيه على تقسيم ألمانيا بين الحلفاء وإعطاء فرنسا جزء منها تتنازل عنه بريطانيا والولايات المتحدة بعد رفض الاتحاد السوفيتي التنازل عن أي منطقة يسيطر عليها، فالاتحاد السوفيتي كان يبحث عن مناطق نفوذ له في شرق أوروبا والنهوض بالاتحاد السوفيتي، واتفق الحلفاء في ذلك المؤتمر على تقسيم ألمانيا وبرلين إلى أربع مناطق احتلال حيث يحتل الاتحاد السوفيتي شرق ألمانيا، وتحتل بريطانيا شمال ألمانيا، أما الجنوب الألماني فكان من نصيب الولايات المتحدة، والغرب من نصيب فرنسا، ليعقد بعد ذلك ثاني تلك المؤتمرات هو ( مؤتمر بوتسدام ) الذي عقد في مايو 1945م، والذي تم التأكيد فيه على ما جاء في مؤتمر يالطا من تقسيم ألمانيا بين دول الحلفاء، بالإضافة إلى نزع سلاح ألمانيا، وتطبيق نظام اللامركزية السياسية والإدارية في ألمانيا، لتتسارع الأحداث وتبدأ الحرب الباردة في البدء بين الاتحاد السوفيتي، والغرب متمثلا في الولايات المتحدة، حيث عارض الاتحاد السوفيتي الدعم الغربي لغرب ألمانيا ،ذلك الدعم الذي أدى لتوحيد غرب ألمانيا، وإعلان قيام جمهورية ألمانيا الفيدرالية وعاصمتها بون عام 1949م، وذلك ما كان يعارضه الاتحاد السوفيتي بشدة لأن الغرض من تقسيم ألمانيا كان إضعافها مما يجعلها لا تشكل أي مصدر تهديد مستقبلي، ثم قام الاتحاد السوفيتي بعدها بإعلان قيام جمهورية ألمانيا الديمقراطية و عاصمتها برلين الشرقية.
2- الخلل الديموغرافي :
تعرضت ألمانيا للعديد من الخسائر في الحرب العالمية الثانية، فالحرب العالمية الثانية حصدت أرواح كثير من البشر ، تلك الحرب التي تقدر ضحاياها بالملايين، وألمانيا بالطبع كان لها نصيب كبير من تلك الخسائر ففقدت الملايين من شبابها ورجالها في تلك الحرب ما بين قتيل أو جريح او مفقود، ذلك أدي لخلل ديموغرافي كبير في ألمانيا، وأدى لتشويه الهيكل السكاني بها، فالقوى العاملة في ألمانيا في فترة ما بعد الحرب مباشرة كانت 75% نساء مقابل 25% رجال، وهو ما شكل تحديا كبيرا لألمانيا، فكيف تنهض أمة بدون سواعد وعقول شبابها ؟، لتؤدي المرأة الألمانية دور كبير في النهوض الألماني حينذاك، وتحمل على عاتقها مسئولية النهوض ببلدها.
3- الدمار الاقتصادي :
حيث أن أهم المدن الألمانية تم تدميرها بالكامل مثل هامبورج ، ودرسدن، وبفورتسهايم ، وهي مدن كانت مركزا للصناعات العسكرية التي كانت تخدم الجيش الألماني في الحرب وذلك أهم أسباب تدميرها حيث مثلت هدفا استراتيجيا للحلفاء، بالإضافة لتقلص الإنتاج الزراعي، وتدمير الصناعة الألمانية وتعرض الكثير من المصانع الألمانية لخطة من التفكيك الممنهج على سبيل المثال قام السوفييت بتفكيك ونقل آلاف المصانع الألمانية وخطوط السكك الحديد إلى الاتحاد السوفيتي، بالإضافة لارتفاع معدلات التضخم لدرجة أن العملة الألمانية فقدت قيمتها وانتشرت المقايضة في ألمانيا في ذلك الحين، بالإضافة للعقوبات العديدة المرهقة التي فرضها الحلفاء على ألمانيا تعويضا عن نتائج تلك الحرب الهجومية التي بدأتها ألمانيا النازية، بالإضافة لسياسات التحكم في الأسعار التي فرضت على ألمانيا من قبل الحلفاء التي أدت لنقص البضائع وعدم القدرة على إحراز أي تقدم اقتصادي.
بداية النهضة الألمانية :
اقترنت التجربة الألمانية باسم الاقتصادي لودويج إيرهارد أول وزير اقتصاد لألمانيا الاتحادية الذي كتب مقال عام 1944م افترض فيها هزيمة ألمانيا في الحرب ووضع على أثر ذلك الافتراض تصور للاقتصاد الألماني، وهو ما دفع الغرب لتعيينه كوزير للاقتصاد عام 1946م، وتقوم سياسات ايرهارد الإصلاحية للاقتصاد على ثلاثة محاور :
أولا :
إصدار عملة جديدة ( المارك الألماني) بدلا من العملة القديمة ( الرايخ مارك) التي فقدت قيمتها وثقة الشعب الألماني بها، وذلك للقضاء على التضخم الذي وصل لأعلى مستوياته آنذاك.
ثانيا:
إلغاء سياسات التحكم في الأسعار المفروضة من المعسكر الغربي والذي عارض تلك الخطوة بشدة، لكن إيرهارد صمم على تلك الخطوة بالرغم من المعارضة الغربية لها.
ثالثا :
تطبيق نظرية السوق الاجتماعي ،وهي نظرية تدمج بين الفكر الرأسمالي والضمان الاجتماعي الحكومي بمعنى تطبيق نظرية اقتصاد الحر، والاستفادة من جميع مزاياه مثل المنافسة، وحرية التملك في وسائل وعوائد الانتاج، وتحفيز الاستثمار، ولكن بتدخل من الدولة لتطبيق الضمان الاجتماعي عن طريق وضع قوانين حاكمة للنشاط الاقتصادي بشكل المركزي، وتوفير خدمات اجتماعية لغير القادرين تضمن لهم حقوقهم، وتفعيل دور النقابات العمالية لضمان حقوق العاملين، وتشجيع فكرة الشركات الأهلية التي تنتج منتجات بسيطة تحتاجها الشركات والمصانع الكبيرة، وطرح قروض بفائدة بسيطة للمواطنين لتشجيعهم على إنشاء مشروعات صغير تساعدهم في ظل تلك الظروف الصعبة كل هذا إضافة للمساعدات الغربية التي حصلت عليها ألمانيا من مشروع مارشال؛ ذلك المشروع الذي كان يدعم إعادة الإعمار في أوروبا.
وبالفعل نجحت تلك السياسات على تقليل التضخم، وخلق فرص عمل عديدة، وعودة الثقة في العملة الألمانية، وهو ما أعاد أروح لقطاع الصناعة في ألمانيا، ففي عام 1958م ارتفع الإنتاج الصناعي لألمانيا أكثر 4 مرات مما سبق، وأصبح لديها مراكز صناعية في مدن مثل ميونخ وشتوتجارت وفرانكفورت، لكن بقيت مشكلة أمام ألمانيا وهي تجنب العالم للبضائع الألمانية بسبب المشاعر العدائية لألمانيا نتيجة الحرب، وهو ما يؤثر سلبا على الميزان التجاري لألمانيا، ولكن هذا الأمر لم يستمر كثيرا، حيث أن في 1950م اندلعت الحرب الكورية، ولأن مصائب قوم عند قوم فوائد كانت هذه الحرب سبب في التغلب على فكرة مقاطعة البضائع الألمانية، وذلك لتسبب تلك الحرب في نقص وارتفاع أسعار البضائع عالميا مما شجع الطلب على بضائع ألمانيا، وهو ما أنعش ميزانها التجاري، وعمل على زيادة الصادرات الألمانية.
وبالنظر لألمانيا الشرقية نجد أنها هي الأخرى حققت نجاحات اقتصادية إن لم تكن تضاهي نظيرتها الغربية، وذلك بسبب السياسات الاقتصادية المركزية، وإفراط الحكومة في التدخل في الأسواق بشكل كبير، وهو ما قلل من حافز الاستثمار، إلا أن ألمانيا الشرقية كانت من الأغنى في المعسكر الشرقي، وذلك عن طريق الاهتمام بالزراعة والعمل على رفع الإنتاج الزراعين وكذلك الاهتمام بالصناعة وخصوصا الصناعات الالكترونية والكيماوية والكهربية وكذلك الصناعات الخفيفة، وهو ما ساعد ألمانيا الشرقية في التجارة الدولية عن طريق زيادة صادرتها التي كان من أهمها منتجات الصناعة الكهربية.
لتتوالى الأحداث وتبدأ عوامل الضعف بأن تظهر في الاتحاد السوفيتي شيئا فشيئا، ليأتي يوم 9 نوفمبر عام 1989م لتغرب أخر شمس لجدار برلين، ويسقط ذلك الجدار الذي بني خصيصا لمنع محاولات التسلل والهجرة من ألمانيا الشرقية لألمانيا الغربية، وذلك بإصرار الألمان على إسقاط ذلك الجدار إيمانهم المطلق بالوحدة بين الأراضي الألمانية الشرقية والغربية، وبالفعل يأتي شهر أغسطس عام 1990م ليتم انتخاب هيلموت كول مستشارا لألمانيا الاتحادية، الموحدة بين الشرق والغرب وبتلك الأحداث يشهد العالم توحيد ألمانيا ممثلة في ألمانيا الاتحادية، وتكون تلك الأحداث من الأكثر تأثيرا في تاريخ الاتحاد السوفيتي، الذي تفككت دوله واحدة تلو الأخرى معلنة استقلالها، لتغرب أخر شمس للاتحاد السوفيتي في 26 ديسمبر عام 1991م.
ألمانيا الآن :
من ركام الحرب لقمة العالم، فألمانيا تتمتع بواحد من أقوى الاقتصادات العالمية، فهي الاقتصاد الأكبر في أوروبا، ورابع أكبر اقتصاد في العالم، وتتمتع بقطاع صناعي يشكل 31% من الاقتصاد _ يحقق لها تنافسية كبيرة في التجارة الدولية فهي من أكبر الدول المصنعة للسيارات عن طريق شركات كبرى مثل مرسيديس و بي إم دابليو.
وبالنسبة للتعليم، أولت ألمانيا القطاع التعليمي اهتمام كبير، فالتعليم أكبر أداة تصنع النهضة لأي دولة، تتبع ألمانيا نظام تعليمي يجمع بين التعليم والتدريب مما يعزز من قدرات الطلاب، وتوظيف قدراتهم الانتاجية، و بلغت نسبة الانفاق على التعليم في ألمانيا 11% من الانفاق الحكومي لعام 2011.
أما عن المجال الصحي، فألمانيا تتميز بمستوى رعاية صحية مرتفع مدعوم بأحدث التقنيات في مجال الصحة، مما يجعلها وجهة الكثير من المرضى حول العالم مما أكسبها موقع متميز في مجال السياحة العلاجية، وبلغت نسبة الانفاق الحكومي في ألمانيا لعام 2013 نسبة 11.3%، كما أن ألمانيا تمتلك أكثر من مستشفى تتمتع بالدعم التقني، والتخصص مثل مستشفى هايدلبرج الجامعي، ومستشفى شتوتجارت.
خاتمة :
ما أشبه الليلة بالبارحة ، فالماضي الألماني يتشابه كثيرا مع حاضر العديد من الدول حول العالم، التي تعاني من الحروب الأهلية، والاقتصادات المدمرة، فالتجربة الألمانية تمثل بارقة أمل لأي دولة تحلم بالتنمية والنهضة، والتجربة الألمانية هي مثال من امثلة عديدة حول العالم من الدول التي نهضت واستفاقت بعدما كانت على حافة الانهيار أو كانت منهارة بالفعل، فالتاريخ يعيد نفسه دوما، فتلك التجارب قابلة للمحاكاة، ولكن يجب أن تحافظ كل دولة على خصوصية تجربتها حينما تحاكي تجارب الأمم الأخرى، وذلك لتعظيم أقصى استفادة تناسب كل دولة .

