أذكر يومها حين كانت الشوارع في دمياط هادئة على غير عادتها، فضجيج المصانع الصغيرة (الورش) كان كحفل صاخب العرض به مستمر، وكنت مثل كل الشباب الصغير نحمل هم عمل مقابل أجر أسبوعي، في فترات الإجازة، صاحب العمل ظل في حال متوتر يتابع الأخبار تارة من التلفاز وتارة أخرى من أفواه الناس على المقهى الصغير أمام محل عملنا، وبعد الظهر انتفض، وقال لي: اذهب إلى بيتك... فلا عمل اليوم، وانطلق بدراجته البخارية مسرعا، كنت أعرف جيدا إلى أين سيذهب، فقد أمضى الأيام السابقة يجمع توقيعات أهل الحي من أجل هذا التمرد.
كنت أحمل كذلك من السياسة خبرة الكثير من الأخبار، فقد كنت أتابع البرامج باستمرار، وأعرف الشخصيات العامة عن ظهر قلب، وأنا الذي لم اتجاوز منتصف العقد الثاني من عمري، لكني قد خضرمت جيدا بتسارع الأحداث. يومها أغلقت محل العمل، وانطلقت إلى الميدان أنا ايضا، جوار النيل، أذكر الشارع الطويل الذي مررت فيه على الكنيسة العتيقة وسط الميدان الصغير، وقد اعتادت أن أنظر لها نظرة كاملة في كل مرة أمر بها وكأنها تحية سُنة مني عني، لم أخلفها حتى يومنا هذا، ثم المسجد الجديد والذي اعتاد والدي أن يصحبني لصلاة الجمعة به، ويفضي الشارع إلى الميدان الكبير.
نهاية الشارع يسطع نورا أكثر من أي موضع فيه، فالشمس تغطي الساحة الواسعة في الخارج بينما تحجبها البيوت المتراصة في الداخل، صوت الهتافات زارني، فأحسست برعشة أحرص ألا أتناساها، ونطقت حينها الشاهدتين قبل أن أردد معهم "ارحل.. ارحل"، كل الوجوه أعرفها جيدا، الميدان مزدحم صاخب بشكل يجعلني أكاد أُدهس بين الأقدام، أنا الفتى السياسي الصغير.
تقدمت إلى سيارة نقل أعانني الشباب عليها، لأجد لي موضع بينهم، كانت السيارة تحمل لافتتين كبيرتين للراحلين الثائرين حينها السياسي جورج إسحاق، والإعلامي وائل الإبراشي، البعض يحمل أعلام، وآخرين كروتا حمراء، في إشارة للطرد، والأفواج تتزايد على الميدان من الجهة الشمالية ومن شارع "الجلاء" في الشرق، الهتاف يعلو أكثر "يسقط يسقط حكم المرشد".
وجدت بين الجموع أستاذي في المرحلة الأولى من عمري يقف وإلى جواره ابنته، على فوري هرولت لأقول له أنا أيضا هنا، أنا أعي وأعلم... أنا أرفض التجارة بالدين، وأرفض تغيير هويتي المصرية، أرفض العصابات والجماعات المسلحة، أرفض ظلم إخواني الأقباط، أقول له لقد وعيت تعليمك يا أستاذي، إني معكما أسمع وأرى، قلت وزدت في الكلام بلا لفظ واحد، فقط كانت عيني تنظر إليه، وعينه لامعة تنظر لي بفخر يقول فيها "فلح زرعي".. وضع يمناه على كتفي اليسرى أن اشتد يا فتى، وكانت لي الطمأنينة لأكمل اليوم هاتفا ثائر.