كل عام و حضراتكم بخير بمناسبة حلول العام الهجري الجديد ١٤٤٥ ، نسأل الله عز و جل أن يجعله عام سعيد مبارك ، مليء بالخير و اليسر و البركات .
قد يتبادر إلي ذهنك و كما يقال " الجواب يبان من عنوانه " أنني سوف أتناول موضوع هجرة سيد الخلق سيدنا محمد خاتم النبيين عليه أفضل الصلاة و السلام من مكة إلي المدينة المنورة ، قد يكون تخمينك به جزء من الحقيقة و لكن ليس كل الحقيقة .
حتي لا أطيل عليك الحديث دعنا نبحر معاً في بحر كلمات الله سبحانه و تعالي التي لا تنفد ، يمن الله عليّ من فضله و بفضله بقراءة ما تيسر من القرءان الكريم يوميًا ( الحمد لله ) ، تجذبني دومًا الآيات التي يذكر فيها الهجرة ، لكن دعني أولاً أشرح لك تلك الكلمة " الهجرة " ، فهي في اللغة العربية من مادة " هجر " التي تدل علي الترك و الإعراض ، يقال : " هَجَرَه يَهْجُرُه هَجْرًا " بالفتح ، و " هِجْراناً " بالكسر صَرَمه و قطعه ، و الهَجْر ضد الوصل ، هَجَر الشئ يهجره هجرًا بمعني تركه و أغفله و أعرض عنه ، و المعني العام للكلمة هو " الترك " ، و المعني الخاص هو " الانتقال من بلد إلي بلد " .
أولي الآيات التي طالما استوقفتني تفكيرًا و تدبرًا هي "وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً " آيه ١٠٠ سورة النساء ، دون الدخول في شرح و تفسير الآيه الكريمة ، أقول إنها دعوة صريحة من الله عز و جل للهجرة ، لترك بلدك التي ولدت و نشأت فيها لكنها بخلت عليك بخيرها ، فضاقت عليك حياتك بها إما لضيق الرزق أو اضطهاد ما بسبب رأيك الحر أو عقيدتك .
لكن يا أسفاه فقد أدركت هذه المعاني متأخرًا ، فأنا الذي تجاوز عمره الخمسين كنت أرفض دائما فكرة ترك بلدي و أهاجر إلي بلد آخر رفضًا قاطعًا ، لكن إذا بهذا الخمسيني يفكر جديًا في الهجرة لكن بعد فوات الأوان .
لم أكن يومًا مقتنعًا بفكرة الهجرة ، فأنا راض برزقي قل أو كثر ، و لم أضطهد في رأي أو دين أو معتقد ، حتي آلت أحوال بلدي و ظروفها إلي ما آلت إليه مؤخرًا و ليس بخافي علي أحد تلك الأحوال و الظروف .
دعنا نتمسك بخيط حديثنا حتي لا نشطط ، دعتني تلك الآيه الكريمة السابق ذكرها إلي التفكر بشكل أعمق في الهجرة ، فوجدتها سنة من سنن الله في خلقه ، إذ أمر بها سبحانه و تعالي بعض أنبيائه قبل النبي الخاتم محمد عليه الصلاة و السلام ، فهذا نوح عليه السلام قد صنع الفلك بأمر الله و هاجر ، و هذا لوط يخرج من قريته بأمر الله و لا يلتفت ، و خليل الرحمن ابراهيم يهاجر من قريته إلي بلاد الشام و إلي مصر و إلي مكة ، و هذا كليم الله موسي عليه السلام خرج من مصر إلي مدين علي غير هدي ، و هذا شعيب عليه السلام ، و يونس و صالح عليهما السلام ، و آل يعقوب و هجرة عيسي ابن مريم في رحلة العائلة المقدسة طفلاً تحمله أمه بصحبة يوسف النجار ، ثم كانت أخيرًا هجرة سيد الخلق و إمام المرسلين سيدنا محمد عليه و علي جميع رسل الله الصلاة و السلام .
قد أكون أدركت منافع الهجرة و ما يكمن بها من خير متأخرًا لكنني لست نادمًا بأي حال من الأحوال ، و إن كنت قد فكرت فيها فذلك لتأمين مستقبل أفضل لبناتي و ليس لي ..
لكن هناك آيه أخري أثرت فيّ و نفذت أمر الله بها قدر استطاعتي و هي "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ " آيه ٢٠ سورة العنكبوت ، فأنا من عشاق السير في الأرض أو قل السياحة و من ثم التأمل في خلق الله و مخلوقاته علي تنوعها و اختلافها متي سمحت لي الفرصة ، و قدر الله لي السير في ربوع مصر قدر استطاعتي ( الحمد لله ) ، و لقد جاء السير في الأرض في مواطن عدة بالقرءان الكريم إذ قال الله تعالي : " أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ " آيه ٤٦ سورة الحج ، كما قال تعالي : "قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ " آيه ١٣٧ سورة آل عمران ، و يقول تعالي : "أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ ۖ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ " آيه ٩ سورة الروم .
و قد يبدو أن السير في الأرض أهون من الهجرة لكني أري أنه أشد وطئًا ، إذ أن السير في الأرض يتطلب كثرة الترحال من مكان إلي مكان سعيًا للمعرفة و التأمل في خلق الله و التفكر و التدبر ، ما يستلزم التحلي بالقوة و الجلد و الصبر علي الصعاب و المشاق ، و قد تعود إلي موطنك الأصلي و قد يستتب بك الحال في بلد آخر تحط فيه رحالك و تستقر به كما فعل أغلب علماء العرب المسلمين في العصور الماضية ، و لعل أشهرهم ابن خلدون و الخوارزمي و ابن الهيثم و غيرهم الكثير ممن سعوا في الأرض طلبًا للعلم و استقر بهم الحال في بلاد غير بلاد مولدهم ، و لعل ذلك ما دفع دول الاستعمار إلي تحديد و تقييد حركة العرب و المسلمين فيما بين دولهم المفتوحة الحدود و من ثم سهلوا و مهدوا الطريق لدولهم تلك الاستعمارية حتي يستأثروا بعلمهم و يستحوذوا علي العلوم دون غيرهم فيسطع نجمهم و يقفل نجمنا نحن العرب المسلمون .
أما و قد طال الحديث و لم ينته فلا أملك إلا أن أختم مقالي هذا داعيًا الله عز و جل أن يعزنا بعزه و يرفع من قدرنا و يعفو عنا ، و لا يسلط علينا من لا يخافه و لا يرحمنا و أن يهيء لنا من أمرنا رشدا إنه ولي ذلك و القادر عليه .. دمتم في خير .