هل ننكر الآخرين لأنهم ليسوا على ملتنا، والملة هي ما اعتدنا عليه فصرنا نمل منه، أم إن المنكرين كانوا أضعف من أن يواجهوا المجتمع مختلفين. اعتدنا عدم تقبل الاختلاف بما حملنا على الكراهية، بل والعنف في أحيان لمنع أي تغيير.
عم سعيد بائع الفاكهة في أول حارتنا، اعتاد رسم صورا مبدعة بثماره، فيضع العنب عناقيد تتساقط كلؤلؤ منثور يضيء أنوارا خضراء وضروبا من الأحمر، ويضع التفاحة جوار الأخرى على مقاعدها بعد أن تولى مسحها فصارت تبعث بريقا للمارة، والموز في جانب على وضع إغراء كأنه أنثى تستعرض جمالها وتتصنع التواضع.
أنكرت الناس عم سعيد، ووسموه بالتافه، من ذا الذي يدلل الثمار هكذا، وآخرين يتحاشون الشراء منه لعله يفعل هذا للمغالاة في الأسعار. وما كان العم سعيد إلا جميل يحب الجمال.
يضع الخالق في كل منا ميزة له بين العاديين، فنجد الكاتب المبدع، يضع الكلمات في الجمل فتبعث مع المعنى موسيقى، والموسيقي يداعب الألحان فيشكو ويبكي ويضحك دون أن يستخدم لسانه، وكأنه يخلق من الطين كهيئة البشر فيتحدثون عنه
اسكندر، ذلك الفتى في آخر عام من العقد الثاني من عمره، لم يكتشف أي موهبة أو ميزة غير أن له شعر كأنه المستعار من الحور، فأطلقه طويلا مسترسلا، تداعبه النسائم فيتراقص. يواجه كل يوم وابل من الانتقاد، فوجده الآخرون يتشبه بالنساء ويفتعل الجمال، وهو المسكين لا يملك من حظ في الدنيا غير مظهره.
تأكل الغيرة في الناس كل ميزة عند الآخرين، برغم أنهم لو كانوا لأنفسهم مهتمين، لوجدوا ميزة لكل منهم على الآخرين. لكن الكراهية أسهل تدفع بهم إلى منازلة المميزين.
أما عن دارين، وجدت أنها جميلة ولها ميزة، فراحت تبيع جسدها مقابل المال، فتضع الشركات عليه منتجاتها من الملابس. وراح يواجهها الناس بالانتقاد والاشمئزاز المتصنع، ويقيم البعض حجتهم على الدين، فيسمونها "ساقطة"، "فاجرة"، "حطب أسفل الجحيم"، ثم يختلس البعض النظر لعروض الأزياء، يبتاعون الشركات بضاعتها.
الناس لا تنكر أحدا بقدر ما ينكرون على أنفسهم العجز عن إتيانها، فهؤلاء الذين أنكروا حياة دارين، هم بالأصل إما غير قادرين على مواجهة الجميع بجرأتها، أول ينسلون إليها في الخفاء. والفريق الثالث قادر على حياتها، لكنه لا يعترض، فقد أدرك أنها فتاة حرة.
الاختلاف سنة الحياة، فما كان العم سعيد ولا الفتى اسكندر أو الجميلة دارين خارجين عن ملة مقدسة، بل إنهم قد عبروا عن ميزاتهم عن الآخرين، واكتشفوا ما تبوح به ذواتهم. وما معشر العاديين غير أفراد جهلوا أنفسهم فجهلتهم الدنيا، وجلسوا على الطرقات عابثين براحة الناس.