في إحدي الأمسيات الصيفية الهادئة جلست أمام التلفاز مرتديًا اللاشئ أشاهد إحدي الأفلام الأبيض و الأسود و التي يعود تاريخ إنتاجها إلي ما قبل أن أولد بعشرين عامًا علي الأكثر ، كان فيلمًا من نوعية الأفلام الشاملة للضحك و الرقص و الغناء ، ممتع لدرجة أني شاهدته بعدد السنين التي مرت علي إنتاجه تقريبًا ، يكفي أن أعرفك أنه كان بطولة فنانة استعراضية شاملة لن تجود السينما المصرية بمثلها و هي الفنانة الرائعة الراحلة في عز شبابها نعيمة عاكف رحمها الله ، أيقونة جمال و دلال و خفة ظل " تمرحنة " ، لا ليس هذا هو اسم الفيلم الذي شاهدته و سوف أحدثك عن مشهد من مشاهده ، و لكنه اسم احدي الأفلام المميزة الخالدة للراحلة .
أما عن فيلمي هذه الليلة فسوف أقتصر الكلام عنه إلي المشهد الذي أثار في ذهني موضوع مقالي هذا ، و أختصر المشهد في لقطة تنظر فيها البطلة لقطار لعبة كهربائي يمشي و يدور علي قضبان منصوب علي منضدة كبيرة ، و لقد ضغط الخادم علي زر تشغيله فإذا به انطلق علي قضبانه محدثًا ضجيجه و مطلقًا صافرته متخطيًا حواجز و موانع عدة ، و يلف و يدور ، و يذهب و يعود ، لا يكل و لا يمل .
خلال تلك الثواني المعدودة كنت قد ذهبت علي متن قطار خيالي في رحلة سريعة وامضة عبر الماضي و الحاضر و المستقبل .
وضعني قائد قطاري علي مفترق طرق عدة كأنه يخيرني بأيهم نبدأ ، احترت في الاختيار ، فجميعهم مظلم مجهول بالنسبة لي ، لا يوجد أي لافتة تدل علي هوية أحدهم ، أدرك قائدي في هذه الرحلة حيرتي فإتخذ قراره .
كان قراره و اختياره مفاجأة كبيرة بالنسبة لي ، إذ انطلق القطار كالسهم المارق في كل الطرق دفعة واحدة ، أو هو طريق يحوي كل الطرق ، السرعة فيه مفتوحة فلا حد أقصي لها و غير مسموح لك بالإبطاء ، فانطلق .
هنا يحضرني لفظة " فانطلقا " في سورة الكهف بالقرءان الكريم و التي يقصد بها كل من سيدنا موسي و الخضر عليهما السلام ، مجرد اشارة ليس إلا .
انطلق قطاري فائق السرعة عبر نفق مظلم لا يتوقف في محطات بل يمر محدثًا وميضًا كلما مررنا بمحطة ، ليس عليك إلا أن تلحظ أول شئ تقع عينيك عليه في جزء من الثانية ، كان أول شئ التقطته عيناي مشهد لثلاثة أصدقاء شباب في النصف الثاني من عقدهم الثاني من العمر ، أعجبني مظهرهم من ملبس إذ كانوا يرتدون تيشيرت و شورت ، لا يبدون من أغنياء القوم بل من متوسطيهم ، أجسامهم ما شاء الله فارعة مما يدل علي أنهم رياضيين ، ملامحهم مألوفة محترمة و مما يدل علي الاحترام أسلوب حديثهم فيما بينهم ، نعم لاحظت كل ذلك في أقل من الثانية ، فعلي متن هذه الرحلة يجب أن تكون حاضرًا بكافة حواسك مستنفرة .
أثارت هذه الملاحظة انتباهي و تساؤلاتي بيني و بين نفسي ، فلماذا و لما و ما المغزي ؟! .. و أخذت أجيب نفسي علي تساؤلاتها بينما قطاري منطلق بأقصي السرعات يومض بين الفينة و الأخري ، قد يكون حنيني لشبابي الذي ولّي ، أو ربما ندم علي فرص قد ضاعت بدون استغلال سواء كنت مدركًا إياها أو لا ، و عدم ادراكي هذا نابع من جهل أم من عدم تقدير و استهانة و رعونة شباب ؟! ، أو قد لا يكون هذا أو ذاك .. محدثًا نفسي ، فلعلي لاحظت المشهد متمنيًا ، فيما يكون التمني ؟! .. أيكون التمني في معاصرة هؤلاء الشباب لعمرهم ، أي أن أكون في نفس عمرهم مستمتعًا بمستجدات العصر ، لكن هل في عصرهم استمتاع حقًا ؟! ، أم عصر شبابي أنا كان أمتع ؟! ، أميل في إجابتي لزمني ، فإن لم يكن أحلي و أمتع فلماذا الحنين إليه إذًا ؟! ، قد يكون الآن أسهل و أيسر و أسرع ، نعم لكن أين متعة الوصول و الكسب بعد التعب و الشقاء و المثابرة ، و هل أعيانا إلا الاستسهال و الاستعجال و عدم التقدير ؟!..
يمضي قطاري مسرعًا و تزداد الومضات ، و أنا في ذهول و أتساءل تري أين سيقف و متي و هل لي من عودة حيث كنت أم أنها ستكون النهاية ؟! .
لكن حدث ما هو أغرب في رحلتي هذه ، فإذا بقطار آخر يمر بجواري في نفس اتجاهي متخطيًا إياي ، لكن بسرعة فاقت سرعتي بأضعاف بالكاد عرفت و لاحظت أنه قطار آخر ، يا الله و ماذا يكون ذلك ؟! محدثًا نفسي ، و من يكون هذا الذي تفوق سرعته سرعتي ؟! ، أول ما فكرت فيه هو أحد هؤلاء الشباب الثلاثة في قطاره الخاص ، لكن إلي أين هو منطلق بهذه السرعة ؟! ، بالتأكيد إلي مستقبل اصطناعي واهم لا حقيقة فيه ، يخيل له المسكين أنه ذكاء لكنه الخديعة الكبري ، مسكين أنت يا بني ، فبالتأكيد يا عزيزي أن سرعتك الفائقة هذه سوف تفوت عليك الكثير من عمرك ، و سوف تكتشف متأخرًا أنك خدعت بإسم الذكاء ، و سوف يكون ندمك علي ما فاتك من عمرك أضعاف ندمي يا بني .
و كما انطلق خيالي في رحلة سريعة علي متن قطاري اللعبة و الذي كنت أمتلكه في طفولتي ، عاد و الحمد لله علي العودة سالمًا ، عاد في لمح البصر لأجد نفسي متابعًا لنعيمة عاكف و أنور وجدي رحمهما الله و كأني لم أغادرهما ، و أكملت الفيلم و توتة توتة خلصت الحدوتة ، حمد لله علي سلامة الوصول .