لطالما زرت تلك المدينة العامرة مرات و مرات ، فمنذ نعومة أظافري و أنا أزورها ، أنا السكندري المولد و المنشأ و الهوي ، أثرتني تلك القاهرة ، طفلا و شاباً و رجلًا ناضجًا ، زرتها و طفت بها ، فتحت عيني علي وسطها التاريخي الخديوي ، فإنجذبت بكل حواسي ، و تعلق بصري بتلك المباني أو قل القمم المتجلية في هذا الوسط العريق ، زكم أنفي عبق التاريخ المنبعث من كل ركن فيه ، من المباني و الحوانيت ، من الرصيف و أتربته ، من بين الناس المترجلة بين جنباته ، صاحبني هذا الإحساس و الانطباع حتي تاريخه ، فبينما أنا أكتب الآن واصفًا يعجز العقل عن إيجاد كلمات معبرة جامعة شاملة واصفة لهذا الإحساس و الشعور ، و الذي يتجدد كلما وطئت قدماي أرض القاهرة .
أشبهها بالقرءان ، فالقرءان كلما قرأت فيه تجد فيه الجديد ، و ما أن تختمه حتي تبدأه من جديد ، كذلك هي القاهرة كلما زرتها لابد أن تجد الجديد ، حتي و إن زرت المكان الواحد مرات و مرات .
و لا أدعي معرفتي بكافة أركانها ، فحتي قاطنيها ليسوا علي علم بكافة أحيائها و شوارعها و حواريها و عطفاتها ، لكنني في كل مرة يكتب لي زيارتها أحرص علي استكشاف ما تيسر لي مما هو جديد بالنسبة لي ، حتي و لو شارع جديد في منطقة جديدة .
من رمسيس لشبرا ، و من شبرا للعتبة و الموسكي و الحسين و الأزهر ، الجمالية و الغورية و القلعة ، أمشي منفردًا ، أكاد أتعثر في خطواتي ، فنظري معلق بالمباني ، و عقلي شارد سابح بين طيات تاريخها ، فلا أعطي اهتمام لأين أضع قدماي و لأين تسير خطواتي .
و من التحرير أنطلق ، فأرسو في مصر الجديدة أو مدينة نصر ، أو الهرم و فيصل و الطالبية ، و قد أجد نفسي فيما لا أعلم له اسم و لا رسم ، لكنني لا أضل الطريق ، و البركة في السيارات الأجرة " التاكسي " أو مترو الأنفاق .
حتي التجمعات الجديدة لم تسلم من زياراتي ، و علي الرغم من رقيها لكنها لم ترق لي ، لم أستسيغها ، فبعضها كالمولود الجديد ، و البعض الآخر يمر بفترة مراهقة ، يحتاجون للرعاية و التوجيه حتي ينشّأوا علي غرار أجدادهم ، لكن هيهات ، فالفارق عظيم ، و المجهود المطلوب بذله أعظم ، قد تستمتع في تلك التجمعات بعض الوقت لكن بالتأكيد ليس كل الوقت .
كانت وجهتي في هذه الزيارة ، و التي مضي عليها أسبوعين ، وجهة جديدة عليّ تمامًا ، إذ كان عليّ أن أزور معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته ال ٥٥ ، و ذلك لتدشين اصداري الثاني " أحوال العباد في رقعة من البلاد " ، و بالطبع التجول بين صالات المعرض الفسيحة .
حللت ضيفًا علي صديق تربطني به علاقة أكثر من مجرد صداقة ، فهو جار لي في سكني بالأسكندرية ، نشأنا سويًا فصرنا أخوة ، و لا نزال علي هذه الأخوة حتي الآن ، نزلت ضيفًا عليه في مسكنه بمصر الجديدة شارع صلاح سالم ، في حضن أكثر المناطق أمنًا بالقاهرة ، انطلقت من هذه البقعة المباركة إلي أنحاء شتي ، أولها كان المعرض ، و كان ذلك في ثالث أيام المعرض ، كان يوم جمعة ، غادرت الأسكندرية ليلة الخميس في أجواء شتوية ممطرة ، فاصطحبتني تلك الأجواء السكندرية إلي القاهرة ، علي غير المتوقع ، حتي أن صديقي قال لي " جيت و جبت معاك الشتا " ، ذهبت إلي معرض الكتاب نشيطًا متفائلًا بتلك الأجواء و زخات المطر المنعشة ، هالني مساحة المعرض ، و أسعدني كم الحاضرين ، من كل حدب و صوب ، من مختلف الأعمار ، أسر و فرادي ، مصريين و أجانب ، وجوه سعيدة مبتسمة فرحة ، كأنه يوم عيد .
بدأت بصالة واحد ، و هي التي بها جناح دار النشر التي تولت طباعة و نشر كتابي السابق ذكره ، تجولت بين مختلف دور النشر قبل أن أتوجه و أصل إلي الدار المقصودة ، اشتريت في طريقي كتابان ، وصلت إلي مبتغاي ، مكثت غير قليل ، التقيت بالمسئول عن الدار ، شخصية محترمة لها كل التقدير ، أقبل الزائرون ، شابة في مقتبل العمر اشترت كتابي ، وقعته لها و التقطنا صورة سويًا ، كانت في غاية السعادة كونها قابلت الكاتب شخصيًا و وقع لها علي نسختها ، و قد كنت أسعد منها بها .
انطلقت معاودًا جولتي بين جنبات المعرض ، اشتريت المزيد من الكتب ، ختمت يومي الأول عند غروب الشمس ، ذهبت لملاقاة صديق آخر ، كان زميل دراسة بالأسكندرية ، فهو صديق عمر أيضًا ، ضرب لي موعد بأحد أكبر المراكز التجارية و أفخمها بالقاهرة ، لم يكن ذلك المركز ببعيد عن منطقة المعرض ، قابلته ، و الأجواء الشتوية الممطرة مستمرة و ممتعة ، مما جعلني في غبطة ، أمضينا وقتًا ممتعًا في أجواء فخمة ، ثم تفضل مشكورًا بتوصيلي لأقرب مكان أنطلق منه عائدًا إلي مقر إقامتي ، فكان ذلك المكان علي طريق يقع بين مدينة الرحاب و مجموعة من أفخم التجمعات السكنية " كومباوند " ، كان في نيتي استدعاء سيارة أوبر ، أو أن أستقل سيارة أجرة تاكسي ، هذا إن لم يسعفني هاتفي المحمول حيث أنه أوشك أن يفصل شحن ، لكني وجدت وسائل مواصلات " ميكروباص " ، فقررت أن أخوض التجربة ، سألت سائق الميكروباص " منين بيروح فين " ، رد " انزل السلام و من هناك لرمسيس عن طريق صلاح سالم " ، و هو المطلوب ، ركبت معه و نزلت السلام ، موقف عام كبير ، شعبي بالدرجة الأولي ، فإذا بي بصدمة مهولة ، من أفخم المراكز التجارية وسط علية القوم ، لموقف ميكروباصات وسط ولاد البلد ، و هم الغالبية ، يا لها من نقلة رهيبة ، سمعيًا و بصريًا ، انطلقت و تعاملت ، و اشتريت فاكهة و ركبت ميكروباص آخر ، و كنت في غاية السعادة ، و الأجواء الممطرة مستمرة مما زاد السعادة سعادة .
في منتصف الليل ، انطلقت و مضيفي سيرًا علي الأقدام في شوارع مصر الجديدة ، ميدان سانت فاتيما ، بحثًا عن وجبة عشاء ساخنة ترم العظم في هذه الأجواء القارسة ، جولة ليلية ممتعة ، هناك حركة و اقبال علي المقاهي و المطاعم ، تناولنا فرخة مشوية بإحدي المطاعم ، ثم توجهنا إلي " عدنان " للآيس كريم ، بناءًا علي نصيحة صديقي ، تناولت الآيس كريم ، و هو فضل الكسكسي الساخن ، ثم عدنا أدراجنا .
في اليوم التالي ، انطلقت عائدًا لجولة أخري بالمعرض ، مبكرًا بعض الشئ عن اليوم السابق ، و برودة الطقس مستمرة ، تجولت بصالات المعرض التي لم أزرها بالأمس ، أمضيت أغلب الوقت بجناح سور الأزبكية ، بحثًا عن القديم النادر من الكتب ، علي أمل أن تكون أسعارها في المتناول ، لكن أمل ذهبت مع عمر بغير رجعة ، فأسعار القديم ارتفعت كما الجديد ، حتي أنني وجدت كتاب تاريخ قديم نادر ، يعود تاريخ طباعته و اصداره لثلاثينات القرن الماضي ، أثرني الكتاب و نويت شرائه ، لكن عند سؤالي عن سعره ، تراجعت فورًا ، فالسيد البائع الكريم عد الكتاب تحفة أثرية أكثر منه كتاب ثقافي ، فبالغ في سعره ، و هو الكتاب و ليس بموسوعة ، كتاب لم تتعد صفحاته الثلاثمائة صفحة ، طلب فيه البائع ٨٠٠ جنيه !! ، تركته آسفًا علي حظي و حظ الكتاب المسكين الذي سيظل حبيس لدي هذا البائع الجشع .
قبل أن أغادر أرض المعرض ، بحثت عن المأكل " تصبيرة " ، لم يكن شئ صعب المنال ، فساحة الطعام موجودة ، و بها ما لذ و طاب ، بحثت عن مكان وسط الزحام ، فالساحة علي وسعها شديدة الزحام ، فترة راحة لابد منها لالتقاط الأنفاس ، و لراحة القدمين من ثم معاودة التجول بين صالات المعرض .
عدت أدراجي ، قضيت ليلتي كمثيلتها السابقة ، علي أن أعود للأسكندرية يوم الأحد ظهرًا ، و قد كان ، لكن بعد جولة سريعة بين العتبة و الموسكي ، بهدف التسوق و التجول بعض الشئ في هذه المنطقة المحببة إلي قلبي .
استقبلتني الأسكندرية ليلًا بجوها البارد المنعش الممطر ، حاملًا انطباعًا مميزًا و ذكريات سعيدة ، فقد كانت رحلة ممتعة بكل المقاييس ، معرض ممتاز ، في مكان بعيد نسبيًا ، لكن توفرت له كل سبل الراحة ، فقد مدت له خطوط مواصلات من كل حدب و صوب ، اقبال واحتكاك بناس زائرين ، التعرف و مقابلة شخصيات صديقة افتراضيًا ، ألتقي بها لأول مرة ، سعدت بلقائهم أيما سعادة ، كتابي و الحمد لله لاقي استحسان و اقبال ، تزودت ببعض ما قسمه الله لي من كتب قيمة بأسعار مناسبة ، متطلعًا لمعرض جديد للكتاب و زيارة قريبة إن شاء الله لكن علي أرض الأسكندرية ، عازمًا الأمر علي مشاركتكم تلك الجولة بتفاصيلها ، لعلها تكون مشجعة و محفذة لكم كي تنطلقوا في جولات مثلها في ربوع مصر ، مجددين نشاطكم ، و مضيفين لذكرياتكم ذكريات جديدة ، و معارف و صداقات جديدة ، ثقافة مضافة تثري عقولكم و تنميها و تزيدكم نضوجًا علي نضوجكم ، و إلي لقاء قريب إن شاء الله في حديث بيني و بينكم .