عاصم صبحي يكتب...في زمن عز فيه القدوة

عاصم صبحي يكتب...في زمن عز فيه القدوة
عاصم صبحي يكتب...في زمن عز فيه القدوة
لطالما راودتني هذه الفكرة ، القدوة ، فكنت أنساق أحيانًا خلفها ، و أطيل التفكير فيها ، و أحللها ، و أنسق عناصرها ، حتي إذا اختمرت و اتسقت ، تملصت منها و انسحبت ، و بحثت عن غيرها في همة و نشاط و انجاز . لماذا هذا التملص و الانسحاب ؟!! ، لا أدري ، لكنني علي اقتناع و يقين بأن لكل شئ وقته و أوانه ، لعلها أي الفكرة لم تختمر بعد كما أظن أنا ، و لعلها مختمرة بالفعل ، لكنني أنا شخصيًا لست أهل بعد للخوض فيها ، أو أن أوانها لم يأت بعد . كثيرًا ما كنت أسأل نفسي أثناء التفكير بالموضوع ، من قدوتك يا عاصم ؟ ، فإذا بالسؤال يفتح باب لسؤال آخر ، قدوتي في ماذا ؟! ، في الحياة العامة ؟ ، أم في عملي ككاتب ؟ ، أم ماذا ؟! . فإذا كان جوابي في الحياة العامة ، فبلا شك هناك جواب واحد بديهي يفرض نفسه بلا تفكير ، بالنسبة لشخص مسلم مؤمن بالله ، ألا و هو قدوتي سيد الخلق و خاتم النبيين و المرسلين سيدنا محمد عبد الله و رسوله عليه أفضل الصلاة و السلام . ثم يأتي جواب آخر في المرتبة الثانية مباشرة ، و دون تفكير أيضًا ، ألا و هو والدي رحمة الله عليه ، فلقد كان نعم الأب ، و نعم القدوة ، ليس لي فقط و لكن لأفراد عائلته ، فقد كان بمثابة كبير العائلة ، كذلك لزملائه في العمل ، فقد كان مدير بكل ما تحتويه كلمة ادارة ، فكان مثلًا يحاذي به ، لكنني للأسف لم أفلح في الاحتذاء به بهذا الجانب من شخصيته ، لعلها سمات شخصية !. أما في مجال الكتابة ، فإنني أري أن الكاتب لا يقتدي بأحد كبار الأدباء ، لكنه يتأثر بأسلوب ما ، و لا يحتذي به ، و ذلك لسبب رئيسي ، و هو أن كتابة الأدب ابداع و نتاج أفكار و تجارب شخصية بحتة ، لا يجب أن ينقاد و يحتذي الكاتب بغيره ، فلكلٍ وجهة نظره و تجاربه ، قد يتشابه اثنان في الأسلوب ، أسلوب السرد ، لكن تناول الفكرة ذاتها بالتحليل ، لابد أن يختلفا . فما هو مفهوم القدوة و معناها إذًا ؟ ، لغويًا هي أصل البناء الذي ينشعب منه تصريف الاقتداء ، و القدوة بضم القاف و كسرها بمعني الأسوة ، و في المصباح المنير الضم أكثر من الكسر ، و هي اسم من اقتدي به إذا فعل مثل فعله تأسيًا ، و فلان قدوة أي : يقتدي به . و القدوة أيضًا : التقدم ، و يقال فلان لا يقاديه أحد و لا يماديه و لا يباريه و لا يجاريه ، و ذلك إذا برز في الخلال كلها . أما المعني الاصطلاحي ، فإن القدوة بالكسر و الضم هي الاقتداء بالغير و متابعته و التأسي به . هذا ، و عرفها الأصفهاني بأنها الحالة التي يكون الانسان عليها في اتباع غيره إن حسنًا و إن قبيحًا ، و إن سارًا و إن ضارًا . و ذكر الشنقيطي في أضواء البيان : أن الأسوة و القدوة سواء ، و المراد بها اتباع الغير علي الحالة التي يكون عليها حسنة أو قبيحة . و للقدوة أهمية قصوي في الاسلام ، و الدين عامة ، فهي من المصطلحات التي وردت في القرءان الكريم ، فقد ساق الله سبحانه و تعالي الكثير من سير الأنبياء و الصالحين و أمر بالاقتداء بهم ، كما قال تعالي :" أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ " آيه ٩٠ سورة الأنعام ، ذلك لأن للقدوة أثرًا عظيمًا في بناء المقتدي ، و صياغة شخصيته . هذا و للقدوة أنواع ، منها الحسنة ، و هي التي تقدم الخصال الحميدة ، و الصفات الجيدة و السلوكيات النافعة . و منها السيئة ، و هي التي تنشر السلوكيات السيئة و الخصال الغير حميدة في المجتمع ، أو في البيئة المحيطة بها . هذا ، و يقول تعالي في محكم آياته :" لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا " آيه ٢١ سورة الأحزاب . لكنّا و علي مدار عقدين من الزمان و أكثر ، نري أن مساحة القدوة الحسنة في حياة مجتمعنا المصري علي وجه الخصوص ، آخذة في التآكل و الانكماش ، و التقوقع علي نفسها ، في صالح زيادة و اتساع مساحة كل ما هو يمثل قدوة و أسوة سيئة للمجتمع ، بل و الأدهي ، تصوير و تقديم هذه السيئة علي أنها حسنة و أنها سمة يجب الأخذ بها ، و نشرها بل و فرضها فرضًا . هذا بالطبع مع اتساع مساحة الأثر التكنولوجي في حياتنا اليومية ، من هواتف ذكية ، و تطبيقات و وسائل التواصل الاجتماعي ، غزت حياتنا غزوًا ، فتأثر الناس بكل ما هو تافه ، قليل القيمة ، عديم النفع و الأثر ، فتراجعت القدوة الحسنة تحت وطأة هذا الغزو و التجهيل المتعمد ، و التقليل من كل ما هو ذا قيمة و أثر حسن . نحارب أنا و جيلي ، ممن تربينا علي الأخلاق الحميدة ، و السلوكيات الحسنة ، نحارب هذا السيل السيء ، كي نربي و ننشئ أولادنا و بناتنا ، تربية حسنة ، و نزرع فيهم قيمة السلوك الحسن و الأخذ به ، و انتقاء قدوتهم و تمحيصها قبل الاقتداء بها ، فعمليات التجميل امتدت لتشمل تجميل واقع سيء و أناس أسوأ ، إذ لم تقتصر عمليات التجميل علي الوجوه بل امتدت لتشمل النفوس ، فتجميل النفوس أخطر علي المجتمع من تجميل الوجوه . نخوض حرب شعواء يا سادة لا هوادة فيها ، سلاحنا فيها ايماننا بالله ، و نقاء و صفاء ضمائرنا ، فقد اجتمعت و تحالفت علينا قوي الشر لهزيمتنا في نفوسنا و أخلاقنا و ديننا ، فيجب علينا التحلي و التسلح باليقظة ، و حسن التدبر ، مقتدون بالأنقياء و الأتقياء و الصالحين ، و علي رأسهم سيدهم و سيدنا محمد عبد الله و رسوله ، و آله و صحبه ، و من اتبع هداهم ، و نلتمس من الله عز و جل الهدي و النصر و الصراط المستقيم ، أعزكم الله و نصركم ، كونوا قدوة حسنة يحسن الله إليكم .

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

 
Get new posts by email: