الزمان .. ثاني أيام عيد الفطر المبارك ، كنت علي موعد مع بعض أصدقاء الدراسة ، هؤلاء الذين طالما كتبت عنهم ، و عن مقابلاتنا و تجمعاتنا الفريدة ، فريدة كونها ترجع بالعمر إلي أيام الزمن الجميل ، زمن الطفولة و المراهقة ، زمن المدرسة ، ابتدائي و اعدادي و ثانوي ، زمن الشقاوة و اللعب ، زمن الحب و القلوب الصافية ، فريدة أيضًا كونها تستعيد و لو اليسير من تلك المفردات التي زينت زماننا الماضي الجميل ، و لو أن الجمال ليس مطلق ، لكننا كنا أطفال ، كنا نستمتع بلحظاتنا ، فالآن نختلس بعض اللحظات من حاضرنا ، و نعود لماضينا الضاحك الخالي من الهموم ..
بينما كنت أتجهز للخروج من منزلي ، كنت أسترجع ذكريات المراهقة ، في مثل هكذا مناسبة ، أرتدي الجديد من الملابس ، أقبض العيدية المعتبرة من والدي رحمه الله ، تغمرني السعادة و الانبساط ، أخرج و أنطلق وحدي ، دون رقابة علي تصرفاتي ، لا قيود و لا شروط ، لا مانع من بعضها قبل الخروج ، بعض التلقينات من الوالد أو الوالدة رحمهما الله ، و بالتأكيد تحديد موعد العودة إلي المنزل ، كذلك بعض التوجيهات النقدية .. متاخدش الفلوس كلها معاك ، هات جزء أشيلهولك ، طب متحطش الفلوس كلها في جيبك ، حطهم في المحفظة .. الفلوس الكثيرة هذه علي فكرة كانت لا تتعدي العشرة جنيهات أو في أقصي الأحوال خمسة عشر جنيهًا ، حتي نقبض باقي العيدية من الأعمام و العمات و باقي أفراد العائلة الكرام .
نعم ، سمعتك إذ تقول " نغنغة " ، كنا طبقة متوسطة مرتاحة ماديًا ، لم نكن أثرياء ، و لو أن فرص الثراء كانت عديدة .
خرجت من منزلي ، مرتديًا ما تيسر لي من جديد الملابس ، استقليت وسيلة المواصلات الشعبية الأولي ، الترام ، المتجهة إلي محطة الرمل ، و ما أدراك ما الترام في أيام العيد ، و ما أدراك ما محطة الرمل في أيام العيد كذلك .
أطفال كثيرة ، من جميع الأعمار ، صبيان و بنات ، مرتدين ملابسهم الجديدة ، بحوزتهم عيديتهم ، متجهين إلي محطة الرمل ، وسط البلد ، حيث السينمات و المطاعم ، و الكافيهات ، و كورنيش البحر ، و حديقة سعد زغلول ، و الآيس كريم و الذرة المشوي .
عذرًا ، لم يعد هناك سينمات في محطة الرمل ، و ذلك رغم وجودها كمباني قائمة حتي الآن ، لم يعد هناك سوي اثنتان فقط ، مترو و أمير ، و اللتان أصبحتا عدة شاشات بعد أن تم تجزئتهما ، أما فريال و راديو و ستراند و ريو و رويال و ريالتو ، و غيرهم أغلقوا فأصبحوا من الذكريات .
انزويت في احدي زوايا عربة الترام أراقب و ألاحظ و أطالع هاتفي المحمول ، أجيال جديدة صاعدة ، أطفال و شباب و شبات ، بعض العائلات .
حاستا السمع و البصر في كامل انتباههما و تركيزهما ، فالأحاديث المتناثرة و الصوت العالي يجذبان و يستحوذان علي أذناي ، و البصر زائغ بين المزركش من الملابس و بين متابعة أسلوب و حركات الشباب و الصبية ، أسلوب كلام و ألفاظ ينمان عن تدني مستوي تربية ، و أخلاق ، و الأهم تعليم !!..
إلا أن هناك ثلة من المحترمين ، ذووا الأدب الواضح ، و الاحترام البادي علي أسلوبهم سواء في الملبس أو الكلام و نبرة الصوت .
أتذكر أن الغالب أيام صباي و شبابي كان الاحترام و الأدب و الذوق ، أما الثلة فكانت العكس .. فأصبحت الثلة الآن محترمين ..
وصلت إلي آخر خط الترام " محطة الرمل " ، ترجلت إلي حيث قابلت أصدقائي ، كافيتيريا و مطعم من أعرق الأماكن في عروس البحر ، يمتلكه صديق ، علي الكورنيش ، ليست ببعيد عن محطة الترام ، من خلال نظرة سريعة ، نجزم أن جميع مطارح محطة الرمل كاملة العدد ، المطاعم و الكافيتريات ، و محلات الآيس كريم ، و العصائر ، حتي الشوارع ، حركة المرور المزدحمة تكاد تكون متوقفة حتي امتداد البصر نحو المنشية و من ثم بحري و رأس التين و القلعة .
مضي الوقت سريعًا مع الأصدقاء ، أحاديث و حكاوي لا تنتهي ، ساعتان أو أكثر مروا علي هذه الصحبة الصافية كأنهم ثواني معدودة ، تفرق المجلس دون الصحبة ، فأصحاب العمر لا يفترقوا و لا يفرقهم أمر كبير كان أو صغير .
خرجت في صحبة اثنين من الأصدقاء ، تجولنا قليلا في شارع سعد زغلول ، ثم افترقنا كلٌ إلي حال سبيله عائدين من حيث أتينا .
أثناء التجول ، طالعت وجوه غريبة ، غير مألوفة ، أصوات عالية ، أحاديث مسموعة ، ألفاظ و نبرات أصوات تشق علي السمع .
مصريون ؟!.. نعم مصريون ، هم عامة الشعب ، هم الغالبية العظمي ، أناس جاءوا من أقصي المدينة ، من حيث لا أعلم ، و لا هم يعلمون ، نعم لا يعلمون معالم مدينتهم ، تائهون ، فقد انتصف الليل و هموا بالعودة من حيث أتوا ، أتوا من ضواحي الضواحي ، مناطق جديدة امتد إليها العمران حتي أصبحت مكتظة بالسكان ، مناطق نمت و ترعرعت في آخر ثلاثة عقود علي الأقل ، منها بالطبع و بالتأكيد عشوائي مقنن ، أفرزت سكان عشوائين ، دون المستوي المعهود الذي تربينا عليه ، عشوائيون في طباعهم و أخلاقهم و تربيتهم ، و الأهم تعليمهم ، متعلمون نعم ، لكنه تعليم عشوائي لا يرتكز علي قواعد سليمة يصح عليها البناء .
تُرك الشعب ليتكاثر و ينمو عشوائيًا ، فأفرز وجوه غريبة ، غريبة بالنسبة لي ، لكنهم فيما بينهم ليسوا غرباء البتة ، فهم ينظرون إليّ علي أنني أنا الغريب وسطهم .. نعم أصبحت أنا الغريب وسط هذا الجمع الغفير من عامة الشعب ..
أيعني هذا أنه خلال عقدين أو أكثر ستصبح العشوائية هي سمة الشعب المصري ؟!.. أيعني هذا أن الثلة الغريبة حاليًا أمثالي سوف تنزوي و تتقهقر و تتحصن خلف جدران التجمعات السكانية الجديدة المسماه " كومباوند " أو داخل أسوار المدن الجديدة الحديثة ؟!..
أيعني هذا أن فارق الطبقات سوف يتسع أكثر فأكثر حتي تصير هناك هوة عميقة بين علية القوم و أدناهم ؟!..
الأمر جد مرعب ، فالمجتمع المصري يا سادة في خطر ، يتهدده العشوائية ، و قلة الأخلاق أو انعدامها ، و الأهم .. تدني مستوي التعليم الذي هو قاطرة الرقي و التقدم و رفعة هذا الوطن ..
عفوًا فقد أطلت و أسهبت في الحديث ، لا لشئ سوي أنني حزنت علي بلدي و علي نفسي ، و حز في نفسي أن أكون غريب في محطة الرمل !!.