" بلسانٍ عربيٍ مبين " الآيه ١٩٥ سورة الشعراء .
دعني عزيزي القارئ أبدأ موضوعي الذي هو بين يديك الآن تقرأه بقصة قصيرة مستعارة من صندوق ذكرياتي قسم ذكريات أيام الدراسة المدرسية ، فلا داعي أن أبدأ بسرد عقيم عن ماهية اللغة العربية و أهميتها و أصولها و جذورها و ما إلي ذلك من مفاهيم و تعاريف و مصطلحات لا طائل منها ، فبالبحث السريع السهل علي محرك جوجل بالشبكة العنكبوتية الانترنت سوف تجد ما لذ و طاب في تعريف اللغة العربية .
و الآن نعود بالذاكرة إلي بدايات النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي ، يبدو أنني أصبحت رجلاً عجوزاً يروي حكايات عاصرها من قرن مضي ، ما علينا فلنكمل حديثنا ، كنت وقتها في المرحلة الثانوية بإحدي أكبر و أعرف مدارس اللغات بالثغر بل و الجمهورية و هي كلية سان مارك " Collège Saint Marc “ ، اللغة الأم بهذه المدرسة هي اللغة الفرنسية ، نتعلمها و ندرسها بمجرد إلتحاقنا بالمدرسة ، أي بقسم الحضانة " Jardin d’ enfants “ أو "حديقة الأطفال " كما يطلق علي القسم ، نمضي في دراسة لغتنا الفرنسية إلي أن نصل لسنة تخرجنا من المدرسة و حصولنا علي شهادة الثانوية العامة .
قررت ادارة المدرسة بينما كنت كنت أنا في المرحلة الثانوية أن تفرض علي جميع طلبة و تلاميذ المدرسة التحدث باللغة الفرنسية داخل المدرسة و طوال ساعات اليوم الدراسي ، حتي أثناء أوقات الفسحة بل و خاصة أثناء تلك الأوقات ، و كان لدينا وقتان للفسحة أحدهما يبلغ خمسة عشر دقيقة و الثاني نصف ساعة ، هذا القرار بالطبع لا يسري علي حصص اللغة العربية و التربية الدينية و ما إلي ذلك من مواد لا تدرس إلا باللغة العربية ، و إن كنا درسنا مادتي العلوم و الرياضيات حتي نهاية المرحلة الاعدادية باللغة الفرنسية .
كان هذا القرار صادم للغالبية العظمي خاصة طلاب القسم الثانوي بمراحله الثلاث ، و علي ما أظن و أتذكر كنت أنا في الصف الثاني الثانوي بالقسم الأدبي ، و أقول غالبية لأنه كان من بيننا زملاء يتحدثون الفرنسية بطلاقة و يجيدونها أكثر مما يجيدون اللغة العربية و ذلك يعود لبيئتهم العائلية و نشأتهم و انتسابهم لجذور أجنبية ، مما أهل هؤلاء ليكونوا مشرفين و مراقبين لزملائهم أثناء الفسحة ، يحثونهم علي التحدث باللغة الفرنسية ، و يدونوا أسماء المخالفين و المعترضين و ما كان أكثرهم ، و علي ذلك وئد القرار في مهده إذ قوبل بتمرد يقوده طلاب المرحلة الثانوية ، لكنه تمرد خفيف الظل في اطار من الأدب يليق بمستوي طلبة و تلاميذ تلك المدرسة العريقة .
هذا الذي قصصته عليك لا ينتقص من قيمة و قدر مدرسين اللغة الفرنسية علي الاطلاق ، فأنا و إن كنت قد تخطيت سن الخمسين بقليل إلا أن لديّ من اللغة الفرنسية ما يؤهلني للتحدث بها مع عصافير باريس .
هذا و يرجع الفضل من بعد الله سبحانه و تعالي في تعزيز ملكة الكتابة و التأليف لديّ لأساتذة اللغة العربية الذين مررت بهم فترة إلتحاقي بالمدرسة ، فلولاهم ما كنت لأسطر بقلمي مقالات نالت القبول و الاستحسان من قارئيها .
أما و قد طالت المقدمة فمن اللائق و المستحسن أن أذهب بك إلي لُب الموضوع ، من المؤكد أنك تذهب و تتجول هنا و هناك ، في وسط مدينتك متجولاً في شوارعها ذاهباً إلي عملك ، أو باحثًا عن شئ ما تود أن تشتريه من احدي المحلات ، أو متسكعًا بلا هدف تحمل في يدك كوب القهوة المصنوع من الكرتون المقوي و قد اشتريته من مطحن بن يبيع كوب القهوة تيك آواي " Take away “ ، اسم المحل مكتوب علي واجهته باللغة الانجليزية " Colombian Coffee “ ، قد لا يلفت نظرك كون الاسم مكتوب بالانجليزية و لا يوجد ما يقابله باللغة العربية ، ذلك لأن محل الملابس الذي بجانبه يحمل اسماً مكتوبًا بالانجليزية أيضًا ، كذلك محل الأحذية ، و بالتأكيد محل الهواتف الذكية و مستلزماتها من الاكسسوارات ، فتأقلم بصرك كما تأقلم لسانك ، ثم شيئًا فشيئًا تتأقلم و تتعايش مع أسلوب حياة غريب عنك ، لا هو بالشرقي و لا حتي بالغربي و إنما هو خليط مسخ ، لا هو استمسك بشرقيته و هويته المصرية ، و لا يرقي للهوية الغربية إلا في تفاهات الأمور و مستصغرها .
أما إذا كنت متجولاً في احدي التجمعات الجديدة فيما يسمي بالكومباوند و أسواقها التجارية المجمعة المعروفة بالمول " Mall “ مع أصدقائك و قابلتم بالصدفة مجموعة من ال " Mutuel Friends “ ، فإنني قد أضطر دون تردد أن أكمل مقالي باللغة الانجليزية ، فلا جدوي هنا من أن أكمل بالعربية ، إذ أن كل ما يحيط بنا هنا لا يمت بصلة للغة العربية ، حتي أحاديثنا سوف يتخللها بعض الألفاظ " In Arabic “ .
يبدو أن بساط ثقافتنا العربية يسحب من تحت أقدامنا دون أن نشعر ، و حتي إذا أدركنا تلك الحقيقة فيبدو أننا سعداء بهذا السحب و يوافق هوانا المولع بكل ما هو آت من الغرب و لو علي حساب قيمنا و عاداتنا و تقاليدنا .
احتلال ناعم أنعم من الحرير ننزلق إليه بمنتهي الأريحية و التباهي الفارغ ، و للأسف لا أجد معترض أو مناد و منوه ينادي و يحذر من مسئولي الدولة و القائمين علي إدارتها ، فإعتمدت علي قلمي و كلماتي عل و عسي تحدث صدي فتسمع من هم في القصور ، احذروا يا سادة فإن لغة القرءان تسحب من بين أيدينا ..!! .