في صباحٍ من أكتوبر، تشرق شمس الفيوم بلونٍ مختلف. تلامس ضوءها الحجارة القديمة، وتنعكس على الرمال بهدوءٍ كأنها تهمس للحياة بأن تبدأ من جديد. في ذلك الضوء الدافئ، ووسط هدوء الصحراء الذي يشبه الصمت المقدّس، وُلد بيت برطش – Casa Bartash في الرابع من أكتوبر عام 2025، لا كافتتاحٍ لمكان فحسب، بل كولادة لرؤيةٍ ثقافيةٍ وإنسانيةٍ جديدة. على مقربة من قرية تونس، وبمحاذاة بحيرة قارون، يمتد بيت برطش على مساحةٍ تزيد عن ٣٥٠٠ متر مربع، يجمع بين روح البيت الريفي والفضاء الفني المفتوح. شُيّد بالحجر المحلي على الطراز الفيومي الأصيل، ليبدو كأنه نبت من الأرض نفسها، يحمل عبقها ودفئها وهدوءها. هنا، يمتزج المعمار بالطبيعة، وتتناغم البساطة مع الأناقة، ويصبح الصمت لغةً ثالثة بين الفن والوجود. في الحديقة الواسعة تنتشر البرجولات ومساحات الظل وأشجار الزيتون والتين، كأنها امتداد لروح المكان. يتوسطها مبنى الاستقبال والمطبخ المفتوح والبار، تحيط به ست غرف مزدوجة وجناح رئيسي يستقبل الزائرين، بينما يظل الأفق مفتوحًا على المشهد الفيومي الساحر. بيت برطش ليس فندقًا، بل مكان للإلهام، ومساحة للحوار والتأمل، وبيت للروح قبل أن يكون للجسد. افتتاحٌ يحتفي بالإنسان قبل الحجر كان حفل افتتاح بيت برطش يومًا استثنائيًا بكل المقاييس، حضره ما يقارب ستين شخصية فنية وثقافية وإعلامية من مصر وخارجها، اجتمعوا في أجواء ودية حميمة تسودها روح الفن والمحبة. من بين الحضور الفنان محمد عبد الجليل، الكاتب حسن داوود، الفنان رضا خليل، الفنانة إيمان حكيم، الدكتورة فينوس فؤاد نائب وزير الثقافة، الدكتور حسين بصير مدير متحف مكتبة الإسكندرية، المهندس هايد سمير رئيس نادي روتاري الفيوم، الأستاذة نوال مصطفى رئيسة جمعية أطفال السجينات، والأستاذ أحمد الجنيني رئيس أتيليه القاهرة، والشاعرة والكاتبة رانيا خلاف، بالإضافة إلى القمص كيرلس كاهن كنيسة يوسف الصديق الذي أضفى بحضوره بُعدًا روحيًا دافئًا على المناسبة. تحولت المناسبة إلى يومٍ للفن والحياة، حيث أقيمت ورش رسمٍ في الهواء الطلق بإشراف نخبة من كبار الفنانين المصريين، جسّدوا بألوانهم سحر المكان، وتفاعلوا مع الضوء والظل والهدوء الفيومي الذي لا يُشبه سواه. كانت اللوحات كأنها محاولات لالتقاط جوهر اللحظة — ذلك التوازن النادر بين الأرض والسماء، بين الإنسان والطبيعة. محمد برطش: رؤية تجمع بين الفكر والإحساس يقف خلف هذا المشروع الثقافي المتفرّد الفنان والمستشار الدولي محمد برطش، الذي جمع في مسيرته بين عالم الأعمال والفكر والفن. من خلال بيت برطش، يقدم نموذجًا جديدًا يجمع الإبداع بالمسؤولية الاجتماعية، والثقافة بالتنمية المستدامة. يقول برطش: «بيت برطش ليس مشروعًا معمارياً، بل قطعة من قلبي تحوّلت إلى بيت. مكانٌ نلجأ إليه لنتذكر البساطة، ونستعيد هدوءَنا، ونعيد اكتشاف الجمال في تفاصيل الطبيعة»" .ويضيف: «الفن بالنسبة لي ليس ترفًا أو زينةً للحيطان، بل طريقة لفهم الحياة، للتعبير عن الوجود، ولإعادة بناء العلاقة بين الإنسان والعالم من حوله». ثم يبتسم قائلًا: «قراري ببناء بيت برطش بعيدًا عن العاصمة لم يكن هروبًا من الصخب، بل عودة إلى الأصل. كنت أريد أن أثبت أن الإلهام لا يسكن المدن، بل يولد في الصمت، على أطراف الصحراء، حيث تتكلم الأرض بصوتها الأول». بيت برطش: مختبر للفن وحاضنة للأحلام يهدف بيت برطش إلى أن يكون منارة فنية وثقافية تستقطب المبدعين من مختلف المجالات والتخصصات. من خلال برامج الإقامة الفنية، وورش الكتابة والرسم والتصوير والنحت، يسعى المكان إلى خلق تفاعلٍ حي بين الفنانين والمجتمع المحلي، ليصبح الفن جزءًا من الحياة اليومية لا حدثًا عابرًا. وسيتم تنظيم فعاليات ثقافية مفتوحة، ومعارض، ولقاءات فكرية تجمع بين المبدعين المصريين والعالميين، إلى جانب برامج تدريبية للشباب والأطفال، تُعيد تعريف العلاقة بين الفن والتعليم والحياة. جسرٌ بين المجتمع والثقافة لا يقتصر دور بيت برطش على الفن بمعناه الجمالي فحسب، بل يتعداه إلى كونه منصة للتنمية الثقافية والاجتماعية في إحدى أجمل مناطق مصر الريفية. يسعى المشروع إلى إشراك أبناء المنطقة في أنشطته من خلال ورش الحِرف والفنون، وبرامج التوعية البيئية، والمبادرات المجتمعية، فيتحول الفن إلى وسيلة لتمكين الأفراد وتعزيز الانتماء. وقد بدأت بالفعل شراكات مع مؤسسات ثقافية عالمية مثل المعهد الفرنسي، ومعهد غوته الألماني، والمركز الثقافي الإسباني سيرفانتس، والمركز الثقافي الروسي، إضافة إلى جامعة الفيوم، لإطلاق برامج مشتركة للتدريب والتبادل الثقافي والفني. بهذا، يُرسي بيت برطش مفهومًا جديدًا للتنمية الثقافية في مصر — تنمية تبدأ من الأطراف لا من المركز، وتُعيد توزيع الضوء والفرص على الجغرافيا الإنسانية كلها. الفن كطريقٍ نحو الاستدامة في عالمٍ تتسارع فيه المدن وتبهت فيه التفاصيل، يأتي بيت برطش كدعوة إلى التمهّل، إلى الإصغاء للصوت الداخلي، وإلى استعادة العلاقة المتوازنة مع الطبيعة. هنا، لا يُعرَض الفن فقط، بل يُعاش. تتضمن الخطط المستقبلية للمكان إطلاق إقامات فنية دولية، وبرامج كتابة وتصوير، وورشًا تربوية للأطفال، ومشروعات بيئية مستدامة تهدف إلى حماية الموارد الطبيعية وتشجيع الزراعة المحلية والحِرف التقليدية. هكذا يصبح الفن في بيت برطش أداةً لبناء الوعي البيئي والاجتماعي، لا مجرد تعبيرٍ فردي عن الجمال. نورٌ في قلب الصحراء مع غروب الشمس، حين يغمر الضوء الذهبي حجارة البيت وتبدأ الظلال بالرقص على الجدران، يشعر الزائر أن شيئًا عميقًا يحدث هنا — شيءٌ يتجاوز الفن والضيافة. إنها العودة إلى الجذور، إلى الصمت الذي يُنبت المعنى، وإلى المكان الذي يُعيد ترتيب العلاقة بين الإنسان والأرض. بيت برطش ليس فندقًا، ولا معرضًا، ولا مشروعًا تجاريًا. إنه حالة إنسانية، وتجربة فكرية وجمالية تسعى إلى إعادة تعريف معنى "البيت" ومعنى "الفن" في حياتنا. في هذا الركن من الفيوم، حيث يلتقي الرمل بالماء، والنور بالحجر، يولد حوارٌ جديد بين الطبيعة والخيال، بين الفرد والمجتمع، بين الأرض والحلم. هنا، الفن ليس هروبًا من الواقع — بل عودة إليه، أكثر صدقًا وهدوءًا وعمقًا.
